السيدة أسماء بنت أبي بكر رضي الله عنها

سيدة أبوها عظيم؛ وزوجها عظيم؛ وابنها عظيم، وهي عظيمة في مواهبها ومواقفها، عظيمة في نفسها وفي أعمالها.

سيدة ذات مبدأ استمسكت به وثبتت عليه. سيدة في أجلّ الاحداث، في السلم وفي الحرب. كانت ربّة بيت صبرت على مرِّه ولم تبطر بحلوه. كان لها من نبل القلب، وكبر العقل، وثبات الاعصاب؛ ما لم يكن مثله الا للقليل من عظماء الرجال.

وفي سيرتها درس عبرة للنساء، وأمل لمن ابتليت بالفقر من الزوجات، وإثبات لمن يحتقر النساء … أنّ المرأة قد تكون أعقل وأنبل من الرجال، وبيان لمن لا يريد بالمرأة إلا أن تكون متعة و مطرحا لشهوات  الرجال، لا همَّ لها الا زينتها وتبرّجها، إنها قد تترفّع عن زخارف الأزياء؛ وألاعيب النساء، حتى تكون ركنا في بناء الأمة، وعونا على تحقيق مثلها العليا.

هذه السيدة يا أيها السادة …

أبوها المسلم الأول بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم ؛ شيخ الإسلام أبو بكر، وزوجها حواري رسول الله وأوّل من سلَّ سيفا في سبيل الله؛ رائد الجهاد؛ البطل السمح الكريم..الزبير بن العوام . وابنها الفارس البطل الشهيد؛ أمير المؤمنين عبد الله بن الزبير.

وهي أسماء ذات النطاقين، أسماء العظيمة، العجوز التي وقفت يوم مقتل ابنها موقفا لا تقوى عليه صناديد الرجال. وهي أخت عائشة الكبرى.

تحتل الرتبة 17 في قائمة السباقين إلى دخول دار الإسلام، فكانت في طليعة جيش الحق والهدى، جيش الاسلام الذي ملأ الأرض نورا، وبايعت الرسول عليه الصلاة والسلام على الوفاء لشرعة السماء والثبات عليها، وبلغ من عمق الايمان في نفسها؛ أنها لما رأت الايمان قد تعارض مع أقوى عواطف النفس البشرية، مع حب الأم غلَّبت إيمانها على عاطفتها.

جاءت أمها تزورها وكانت مشركة لم تدخل بعد في الاسلام، فهشت للقائها بعد طول الفراق، وتفتح لها قلبها وقفز ليكون بريقا في عينيها، وابتساما في شفتيها وتحية حلوة على لسانها، وضمّة دافئة في ذراعيها، ثم ذكرت ان أمها مشركة، وأن رابطة الدين أقوى من رابطة النسب، وأن الله تعالى يقول : [لا تجد قوما يؤمنون بالله واليوم الآخر يوادّون من حادّ الله ورسوله] المجادلة: آية 22

فتراخت الذراعان واغضت العينان وجمدت التحية على اللسان ، وأرسلت الى عائشة أن اسألي رسول الله صلى الله عليه وسلم: أأصل أمي وهي مشركة وأستقبلها؟

فقال الرسول عليه الصلاة والسلام : نعم صلي أمك واستقبليها

وعلّمها أن الاسلام لا يحول أبدا دون عواطف الخير والشر، ولا يقتل أبدا دوافع النبل في النفوس. وكان ايمانها كعقلها، وكانت متحكّمة دائما في أعصابها.

لما كانت الهجرة حمل أبو بكر ماله كله معه، لا ليحرم منه أسرته بل ليُعين به محمدا على دعوته التي كان يراها أولى من نفسه و أسرته … وبلغ ذلك أبا قحافة والد أبا بكر، وكان مكفوف البصر فجاء متأسفا غضبان وقال: ما أراه إلا قد فجعكم بماله، كما فجعكم بنفسه.

قالت: لا يا جدّي.

وأخذت حجارة فوضعتها في كيس كان يضع ماله فيه، وألقته في صندوقه، وقالت: تعال انظرووضعت يده على الكيس … فقال: إن كان ترك لكم هذا فقد أحسن.

وكانت الهجرة وهي حادث هين في ذاته، رجلان خرجا من مكة الى يثرب يخرج كثير مثلهما كلّ يوم ومن كل بلد، من يوم خلق الله الدنيا وحتى يأذن في خرابها .. ولكنه عظيم في نتائجه، لأنه لم يكم سفرا من بلد الى بلد، بل انتقال الدعوة من طور الى طور، من طور الاسرار والضعف، الى طور الاعلان والقوة؛ طور الظفر والعلاء.

وما كان لمحمد موكب تخفق فيه على رأسه الرايات ، وتقرع أمامه الطبول ، وتمشي وراءه الجند ، وما كان في موكبه الا هو وصاحبه الدليل ، ولكن كانت تمشي فيه الملائكة وتحف به الرحمة ، ويهرب من أمامه الماضي الأسود ويتبعه المستقبل المنير . موكب ما مشى من مكة الى يثرب فقط ، بل الى دمشق والبصرة والكوفة ، ثم الى بغداد والقاهرة، ثم الى قرطبة وسمرقند والهند ، إلى الدنيا العريضة التي حمل اليها أتباع محمد الخير والهدى، حين حملوا اليها الاسلام، ثم مشى في الزمان الى العصور الآتيات الى ساحات الخلود …

موكب كان فيه رجلان وامرأة، امرأة نابت عن النساء حين مثّلتهنّ في هذا الموقف العظيم، امرأة لم تقطع معهما الطريق كله، ولكن أمدّتهما بالطعام والزاد، وكذلك تصنع المرأة اذا لم تصل مع الرجل الى كل ميدان وصل اليه، فإن لها الفضل في إمداده وعونه، فلولا المرأة ( المرأة أمّا والمرأة زوجا وسكنا ) ما استطاع الرجال خوض هذه الغمرات.

كانت أسماء تعدّ الطعام وتحمله الى الرسول صلى الله عليه وسلم وصاحبه ؛ وهما في الغار، وتمزّقت مرة سفرتها (السفرة: زاد المسافر أو وعاء الزاد) فشقت نطاقها ( زنارها) لقسمين، فربطتها بواحد وانتطقت ( أي تمنطقت) بالآخر فسميت ذات النطاقين.

وكانت تعدّ الطعام لهما ذات مرة، فجاءها أبو جهل وأصحابه، في زهوه الباطل وكبره السخيف، فسألها عن أبيها، وكانت الهجرة سرّا في مكة لا يعرفها الا رجل وامرأة؛ عليّ وأسماء، فأبت أن تذيع السر، فهدّدها فلم تخف، فرفع يده فضربها وهي حامل. وكذلك يفعل الجبان … عجز عن أن يضرب الرجال فضرب امرأة حاملا.

وكذلك يفعل الجبناء في كل عصر … عجز اليهود عن مواجهة الابطال في الحومة فواجهوا العجائز والاطفال في دير ياسين، ولكن ضربة أبي جهل دمّرت الشرك، وذكرى دير ياسين ستدمر صهيون.

ولحقت أباها، ودخلت في الموكب القدسيّ الأنور، موكب الهجرة، حتى اذا قطعت الصحراء المقفرة، وأشرفت على أوائل النخيل في قباء، وضعت عبد الله، فكان أوّل مولود في الاسلام، وكان عيد ميلاده هو عيد ميلاد الحضارة واليُمن والخير. 

يا سادتي … لما تزوج الزبير أسماء، لم يكن له في الدنيا شيء لا مال ولا عقار، ليس له الا فرسه، فلم يكن عليها أن تصبر على الفقر فقط، ولا أن تروّض نفسها على الحرمان وتخدم زوجها وحده، بل كان عليها أن تخدم هذا الفرس؛ تمشي تجمع له نوى التمر، ثم تدق النوى وتعلف الفرس.

وصبرت على هذا كله، وكانت مطيعة لزوجها حريصة على مرضاته.

رآها رسول الله صلى الله عليه وسلم ذات مرة وهو على ناقته، وهي تحمل النوى، وهي أخت زوجته، وزوجة ابن عمته، فقال لناقته: اخ اخ. ينيخها ليُركِبها معه. قالت: فذكرت غيرة الزبير فأبيت.

أبت أن تركب مع الرسول عليه الصلاة والسلام، الطاهر المطهّر المعصوم، خوف سخط زوجها، وما كان زوجها ليسخط ولكنها المبالغة في مرضاته.

ولما أعطاها أبوها خادما يرعى الفرس، رأت نفسها قد غدت ملكة.

يا أيتها القارئة … يا من لها زوج فقير، فهي تتألم للحرمان وتكاد تذم القدر، اسمعي بقية الخبر…

إنها صبرت على هذا كله، فكانت العاقبة أنها اغتنت، وانصبّت عليها وعلى زوجها النعم، حتى لما مات كانت تركته .. أتدرون كم ؟!

خمسة ملايين درهم ومئتي ألف فقط لا غير … لم يجمعها من الحرام، ولا من أخذ أموال الناس، ولا لأنه قعد في المجلس فدرّس ووعظ وقال أنا حواري رسول الله وابن عمته فأعطوني، بل تاجر مثلما تاجر عبد الرحمن بن عوف والصحابة، وصار كما صار الكثيرون منهم من أصحاب الملايين.

وكذلك كان المسلمون، كانوا رجال دنيا ودين ومال وتقى، كانوا جناََ َ في النهار ورهباناَ َ في الليل.

وكان الزبير مع ذلك سمحا كريما، كان له هذا المال وكان له ألف مملوك يشتغلون لحسابه ، ولم تجب عليه زكاة لأنه لم يدّخر شيئا. أما هذه السيدة الفاضلة فلم تخجل أولا من فقر زوجها، ولم تبطر بغناه، وبقيت كما كانت امرأة خير وبر وإحسان.

وكانت في شجاعتها أخت الرجال، مثل حماتها صفيّة بنت عبد المطلب، شاركت يوم اليرموك في القتال وفعلت فعل الأبطال.

ولما كانت الفتنة أيام سعيد بن العاص، واضطرب حبل الأمن، أخذت خنجرا فجعلته على جنبها لتدافع به عن نفسها و بيتها، ولو أن كل فتاة تعرف كيف تدافع عن نفسها؛ لا بالخنجر، فما نحتاج الان الى الخناجر، بل بأن تمشي مرفوعة الرأس ثابتة النظر، شاعرة بالكرامة، وبأن ترد كل متعرض لها طامع فيها، كما ترد الكلب العقور، لذهب من الارض ثلاثة أرباع الفساد.

وكانت فصيحة بينة، أديبة شاعرة، ولها في رثاء زوجها مقطوعات.

وهاكم موقفها العظيم حقا، الموقف الذي لم تقفه امرأة أخرى، وهل سمعتم أن أمّاَ َ تحكم على ولدها بالموت؟!

كان عبد الله قد ملك الحجاز والعراق وفارس وخراسان، وانقادت له مصر ، وكان له في الشام حزب، والتقت في كفه أطراف دنيا الاسلام ، ولم يبق لبني أمية الا قليل من الشام ، ثم تقلّص هذا الملك وانتقص من أطرافه وضاقت دنياه باتساع دنيا بني أمية، فلم يبق من جيشه الذي خفقت راياته على المشرق والمغرب الا نفر يحيطون به في الحرم؛ هذا كل ما بقي له. والمنجنيق ينزل عليه والعدو يحيط به ، وعرض عليه الفرار فأباه، ولم يرض أن يختم هذه الحياة الطويلة الحافلة بالبطولات والأمجاد بأبشع خاتمة، بل آثر أن يموت ميتة أبيه؛ أن يسقط في المعركة الحمراء وسط المعمعة في الحرب الشريفة، وأن يغسل بالدم ويوسد تراب الحرم. وذهب يودّع أمه ويستشيرها، وكانت عجوز مكفوفة قد قاربت المئة ، وقال لها: 

يا أم، قد خذلني الناس؛ حتى أهلي وولدي، ولم يبق لي أمل، والقوم يعطونني ما أردت من الدنيا ، فما رأيك ؟

وترددت الأم، وذكرت في لمحة مولده في قباء وذكرت نشأته وقلّبت حياته صفحة صفحة، فكادت تغلبها نفسها وعاطفتها، ثم ذكرت أن هذه الحياة التي تختارها لولدها؛ حياة تسلبه مجده وكرامته ، والموت خير من حياة بلا كرامة ولا مجد . فتشددت وتثبتت وقالت:

لا يتلاعبن بك صبيان بني أمية … عشت كريما فمت كريما.

أعطت الأم قرارها وحكمت على ولدها بالموت، وهي تنتزع مع كل حرف من هذه الجملة قطعة من روحها، فكأنها لم تحكم عليه وحده ؛ بل حكمت على نفسها أيضا بالموت . وضمته إليها تتحسّسه وتشمه ، تأخذ من هذه اللحظات الذخر الوحيد الذي ستعيش به بقية أيامها. ولما انصرف أحسّت في قلبها بفراغ لا يسدّه شيء، شعرت أنه لم يبق لها قلب.

أما إن هذا الموقف لو كان لامرأة فرنسية أو إنكليزية لنظمت فيه مئة قصيدة، وألّفت فيه مئة قصة، ولكن أسماء كانت عربية مسلمة، والعرب قد أضاعوا بيانهم وأدبهم مع ما أضاعوا من تراث الجدود.

هذه أسماء السيدة الجليلة التي يتشرف بها تاريخ الأمة الذي تكون سيرتها فيه !

رحم الله السيدة أسماء وأعلى في الجنان منازلها


المصدر: كتاب رجال من التاريخ للشيخ علي الطنطاوي رحمه الله

المشاركة: حسن أمحاش

اترك تعليقا

ليست هناك تعليقات :

ترك الرد