هو الطُّفيل بن عمرو الدوسي سيّدُ قبيلةِِ دَوْس في الجاهلية .. وشريفُ من أشراف العرب المرموقين .. وواحدُ من أصحاب المروء ات المعدودين .. لا تُنزَل له قِدر عن نار .. ولا يُوصَد له باب أمام طارق .. يَطعم الجائعَ .. ويُؤَمِّن الخائفَ .. ويُجير المستجيرَ .. وهو إلى ذلك أَديبُُ أريب لبيبُُ .. وشاعر مُرهَف الحِسِّ رقيقُ الشُّعور بصيرُ بحلو البيان ومُرّه .. حيثُ تَفعلُ فيه الكلمةُ فِعْل السِّحرَ.
غادر الطفيل منازل قومه في تهامة متوجهاً إلي مكة .. ورحى الصراع قائمة بين الرسول الكريم صلوات الله عليه وكفار قريش .. كل يريد أن يكسب لنفسه الأنصار .. ويجتذب لحزبه الأعوان .. فالرسول صلوات الله وسلامه عليه يدعو لربه وسلاحه الإيمان والحق .. وكفار قريش يقاومون دعوته بكل سلاح ويصُدُّونَ الناس عنه بكل وسيلة.
ووجد الطفيل نفسه يدخل هذه المعركة على غير استعداد ويخوض غمارها عن غير قصد .. فهو لم يَقْدِم إلى مكة لهذا الغرض .. ولا خطر له أمر محمد وقريش قبل ذلك على بال.
ومن هنـــا كان للطفيل بن عمرو الدوسي مع هذا الصراع حكاية لا تُنسى .. فلنستمع إليها .. فإنها من غرائب القصص ..
حَدّث الطفيل فقال: قَدِمتُ مكةَ .. فما أن رآني سادةُ قريش حتَّى أقبلوا عليَّ فرحّبوا بي أكرمَ تَرحيبِِ .. وأَنزَلُوني فيهِمْ أَعزَّ مَنزِلِِ .. ثم اجتمعَ إليّ سادتُهم وكبراؤُهم وقالوا: يا طفيلُ .. إنّك قد قَدِمتَ بلادنَا .. وهذا الرجلُ الذي يَزعَم أنّه نبي قد أفسد أَمْرَنا ومَزّق شملَنا وشَتّت جماعَتنا .. ونحنُ إنما نَخشى أن يَحُلَّ بك وبزعامتك في قومك ما حلَّ بنا .. فلا تُكلِّمِ الرجلَ ولا تسمعَنَّ منهُ شيئاً .. فإنّ له قولاً كالسّحر يُفرّقُ بين الولدِ وأبيهِ وبين الأخ وأخيه وبين الزوجة وزوجها ..
قال الطفيل: فوالله مازالوا يَقصّونَ عليَّ من عجائب أخباره .. ويُخوِّفونَني على نفسي وقومي بعجائب أفعالِه .. حتى أجمعتُ أمري على ألا أقتربَ منهُ وألا أُكلمه وأسمعُ منهُ شيئاً.
ولما غَدوتُ إلى المسجد للطواف بالكعبة حتى وجدتُه قائماً يُصلي عند الكعبة صلاة غير صلاتنا .. ويَتعبّدُ عبادة غير عبادتنا .. فأسَرَني منظرُه .. وهَزّتني عبادَتُه .. ووجدتُ نفسي أدنو منه شيئاً فشيئاً عن غير قصد منّي حتى أصبحتُ قريباً منهُ .. وأبى الله إلاَّ أن يصِلَ إلى سمعي كلاماً حسناً وقلتُ في نفسي: ثكلتكَ أمُّك يا طفيل .. إنك لَرجلُُ لبيبُُ شاعرُُ .. وما يَخفى عليك الحسنُ من القبيحِ .. فما يمنعُك أن تسمع من الرجل ما يقول .. فإنْ كان الذي يأتي به حسناً قبلتَهُ .. وإن كان قبيحاً تركتَه ..
قال الطفيل: ثم مكثتُ حتى انصرفَ رسول الله صلي الله عليه وسلم إلى بيته فتبعته .. حتى إذا دخلَ دارهُ دخلتُ عليهِ فقلتُ: يا محمد إن قومَك قد قالوا لي عنك كذا وكذا .. فوالله ما بَرحوا يُخوّفونني من أمرِك حتى سَددتُ أُذُني بقطنِِ لَئِلا أسمعُ قولَك .. ثم أَبى الله إلا أن يَسمعُني شيئاً منه .. فوجدتُه حسناً .. فأعرضْ عليَّ أمرَكَ ... فعرضَ عليَّ أمرَهُ .. وقرأَ لي سورة الإخلاص والفلق .. فوالله ما سمعتُ قولاً أحسن من قوله .. ولا رأيتُ أمراً أعدلُ من أمره ..
عند ذلك بسطت يدي إليه .. وشهدت أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله .. ودخلت إلى الإسلام.
قال الطفيل: ثم أقمت في مكة زمناً تعلمت فيه أمور الإسلام .. وحفظت فيه ما تيسر لي من القرآن .. ولما عزمت إلى العودة إلي قومي قلت: يارسول الله إني امرؤ مطاع في عشيرتي وإني راجع إليهم وداعيهم إلي الإسلام فأدع الله أن يجعل لي آية تكون لي عوناً فيما أدعوهم فقال: (اللهم اجعل له آية).
فخرجت إلى قومي حتى إذا كنت في موضع مشرف على منازلهم وقع نور فيما بين عيني مثل المصباح فقلت: اللهم اجعله في غير وجهي .. فإني أخشى أن يظنوا أنها عقوبة وقعت في وجهي لمفارقة دينهم ... فتحول النور فوقه في رأس سوطي .. فجعل الناس يتراءون ذلك النور في سوطي كالقنديل المعلق وأنا أهبط إليهم من الثنية.
فلما نزلت أتاني أبي وكان شيخاً كبيراً فقلت: إليك عني يا أبت فلست منك ولست مني - قال: ولم يابني ؟!
- قلت: لقد أسلمت وتابعت دين محمد صلي الله عليه وسلم
- قال: أي بني دينك دينى
- فقلت: اذهب واغتسل وطهر ثيابك ثم تعال حتى أعلمك ما علمت .. فذهب فاغتسل وطهر ثيابه .. ثم جاء فعرضت عله الإسلام فأسلم.
ثم جاءت زوجتي فقلت: إليك عني فلست منك ولست مني
- قالت: ولم!! بأبي أنت وأمي
- فقلت: فرق بيني وبينك الإسلام فقد أسلمت وتابعت دين محمد صلي الله عليه وسلم
- قالت: فديني دينك
- قلت: فاذهبي فتطهري من ماء ذا الشري (صنم لدوس حوله ماء يهبط من الجبل)
- فقالت: بأبي أنت وأمي .. أتخشي علي الصبية شيئاً من ذي الشري
- فقلت: تباً لك ولذى الشري قلت لك: اذهبي واغتسلي هناك بعيداً عن الناس وأنا ضامن لك ألا يفعل هذا الحجر الأصم شيئاً .. فذهبت فاغتسلت ثم جاءت فعرضت عليها الإسلام فأسلمت.
ثم دعوت دوساً فأبطأت إلا أبا هريرة فقد كان أسرع الناس اسلاماً.
قال الطفيل: فجئت إلى رسول الله صلي الله عليه وسلم ومعي أبو هريرة
فقال النبي عليه الصلاة والسلام: ما وراءك يا طفيل ؟
فقلت: قلوب عليها أكنة وكفر شديد .. لقد غلب علي دوس الفسوق والعصيان ...
فقام رسول الله صلى الله عليه وسلم فتوضأ وصلى ورفع يده إلى السماء ( قال أبو هريرة: فلما رأيته كذلك خفت أن يدعو على قومي فيهلكوا .. فقلت: وا قوماه .. ) لكن الرسول صلوات الله عليه جعل يقول: ( اللهم اهد دوسا وأت بهم ) ثم التفت إلي وقال: ارجع إلى قومك وأرفق بهم وأدعهم إلي الإسلام.
قال الطفيل: فلم أزل بأرض دوس أدعوهم إلى الإسلام حتي هاجر رسول الله صلي الله عليه وسلم إلى المدينة .. ومضت بدر وأحد والخندق .. فقدمت على النبي ومعي ثمانون بيتاً من دوس أسلموا وحسن إسلامهم .. فسر بنا رسول الله .. وأَسْهَمَ لنا مع المسلمين من غنائم خيبر فقلنا: يا رسول الله إجعلنا (ميمنتك) في كل غزوة تغزوها واجعل شعارنا (مبرور).
قال الطفيل: فلم أزل مع رسول الله صلي الله عليه وسلم حتى فتح الله عليه مكه فقلت: يارسول الله ابعثني إلى (ذي الكفين) صنم عمرو بن حممه حتى أحرقه .. فاذن له النبي عليه الصلاة والسلام .. فسار إلى الصنم في سرية من قومه .. فلما بلغه وهم باحراقه .. اجتمع حوله النساء والرجال والأطفال يتربصون به الشر .. وينتظرون أن تصعقه صاعقة إن هو مس (ذي الكفين) بضر ..
لكن الطفيل أقبل على الصنم على مشهد من عُبادِه .. وجعل يضرم النار في فؤاده .. وهو يرتجز: يا ذا الكفين لست من عبادكا .. ميلادنا أقدم من ميلادك .. إني حشوت النار في فؤادك ..... وما أن التهمت النار الصنم حتى التهمت معها ما تبقى من الشرك في قلوب دوس .. فأسلم القوم جميعاً وحسن إسلامهم.
ظل الطفيل بن عمرو الدوسي بعد ذلك ملازماً لرسول الله صلى الله عليه وسلم حتى قبض النبي إلي جوار ربه .. ولما آلت الخلافة من بعده إلي صاحبه الصديق وضع الطفيل نفسه وسيفه وولده في طاعة خليفة رسول الله.
ولما نشأت حروب الردة نفر الطفيل في طليعة جيوش المسلمين لحرب مسيلمة الكذاب ومعه ابنه عمرو .. وفيما هو في طريقه إلى اليمامة رأى رؤيا فقال لأصحابه: إني رأيت رؤيا فعبروها لي .. فقالوا: وما رأيت ؟ قال: رأيت أن رأسي قد حلق .. وأن طائراً خرج من فمي .. وأن أمرأة أدخلتني في بطنها .. وأن إبني عمراً جعل يطلبني حثيثاً لكنه حيل بيني وبينه. فقالوا: خيراً
فقال: أما أنا والله لقد أولتها .. أما حلق رأسي فذلك أنه سَيُقطَع .. وأما الطائر الذي خرج من فمي فذلك روحي .. وأما المرأة التي أدخلتني في بطنها فهي الأرض تحفر لي فأدفن في جوفها .. وإني لأرجو أن أقتل شهيداً .. وأما طلب ابني لي فهو يعني أنه يطلب الشهادة التي سأحظى بها (إذا أذن الله) لكنه يدركها فيما بعد.
وفي معركة اليمامة أبلى الصحابي الجليل الطفيل بن عمرو الدوسي أعظم البلاء حتى خر صريعاً شهيداً على أرض المعركة .. وأما ابنه عمرو فمازال يقاتل حتى أثخنته الجراح وقطعت كفه اليمني .. فعاد إلى المدينة مخلفاً على أرض اليمامة أباه ويده.
وفي خلافة عمر بن الخطاب رضي الله عنه .. دخل عليه عمرو بن الطفيل .. فأتى للفاروق بطعام والناس والناس جلوس عنده .. فدعا القوم إلى طعامه .. فتنحّى عمرو عنه فقال له الفاروق: لعلك تأخرت عن الطعام خجلاً من يدك .. قال: أجل يا أمير المؤمنين قال: والله لا أذوق هذا الطعام حتى تخلطه بيدك المقطوعة .. والله ما في القوم أحد بعضه في الجنة إلا أنت (يريد يده المقطوعة).
ظل حلم الشهادة يلوح لعمرو منذ فارق أباه .. فلما كانت معركة اليرموك .. بادر إليها عمرو مع المبادرين .. ومازال يقاتل حتى أدرك الشهادة التي مناه بها أبوه.
رحم الله الطفيل بن عمرو الدوسي .. فهو الشهيد وأبو الشهيد.
المصدر: صور من حياة الصحابة لـ عبد الرحمان باشا
المسساهمة: حسن أمحاش
ليست هناك تعليقات :